لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا

"زر غبا تزدد حبا" ، يتضمن دلالات تحمل في باطنها فضائل خلقية عظيمة، "زر غبا" قليلا، مرة بعد مرة، أي قلّل من زيارتك ما استطعت، ليكمل سرورك وتدوم محبتك.

المتأمل في أصناف الزوار يلاحظ على الأقل ثلاثة أصناف، الأول صنف محبون يزورون في الله، وهذا الصنف عزيز قليل نادر. والثاني صنف من فريق معجب برأيه يزور ليجادل وليماري، وهذا صنف لا خير فيه ولا ثواب في مجالسته، فالوحدة خير من الجلوس معه. والثالث صنف من فريق جاء ليتجسس ولينقل الأخبار وليفتري على عباد الله الأخيار، وما أكثر هذا الصنف في هذا الزمان؛ وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منه.

لكن هذا يعني الإفراط والتفريط في الزيارة، فللزيارة فضلها، من ذلك ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله عز وجل يقول يول القيامة: "يا ابن آدم مرضت فلم تعدني"، قال: يارب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال "أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟"؛ "يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني"، قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال "أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟"، "يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني"، قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: "استسقاك عبدي فلان فلم تسقه؟ أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي"".

وعلى نفس المنهج والتوجيه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم "من عاد مريضا أو زار أخا له في الله ناداه مناد بأن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا" ومما يدعم صحة ذلك حول فضل الزيارة في الله حديث مالك عن معاذ بن جبل "قال تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيّ، وللمتجالسين فيّ، وللتزاورين فيّ وللمتبادلين فيّ" فأجر الزيارة يضاعف إذا كانت الزيارة من أجل صلة الرحم. إنما للزيارة آدابها ينبغي للزائر أن يتأدب بها في زيارته، ومنها:

أولا: الاستئذان، قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون، فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعو فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم، ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون" "النور 27- 29". هذه آداب شرعية أدّب الله بها عباده المؤمنين، أمرهم أن لا يدخلوا بيوتا غير بيوتهم حتى يستأنسوا أي يستأذنوا، وينبغي أن يكون الاستئذان "ثلاث مرات" فإن أذن للزائر وإلا انصرف.

قال الإمام القرطبي: قال علماؤنا: إنما خص الاستئذان بثلاث لأن الغالب من الكلام إذ كرر ثلاثا سمع وفهم. قال قتادة: أما الأولى، فليسمع الحي، وأما الثانية فليأخذوا حذرهم، وأما الثالثة فإن شاءوا أذنوا وإن شاءوا ردّوا، ولا تقفنّ على باب قوم ردّوكم عن بابهم. ومن الآداب في الاستئذان إلقاء السلام، وفي هذا السلوك أحاديث نبوية عديدة وأن يكون الدق على الباب خفيفا، روي عن أنس "كانت أبواب النبي صلى الله عليه وسلم تقرع بالأظافر"، وأن يعرف الزائر بنفسه ويذكر اسمه ولقبه.

ثانيا: غضّ البصر عن حرمات البيت، قال عمر بن الخطاب "من ملأ عينيه من قاعة بيت فقد فسق" وغض البصر يكاد يستحيل في عصرنا هذا.

ثالثا: ينبغي الاستئذان على جميع المحارم: الأم، والأخت، وغيرهما، روى البيهقي عن عطاء أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أستأذن على أمي؟ قال "نعم" قال: إني أخدمها. قال "استأذن عليها" فعاوده ثلاثا، قال "أتحب أن تراها عريانة؟" قال: لا. قال "فاستأذن عليها".

رابعا: الاستئذان على الزوجة، وهو من الأدب العالي، قال الإمام أحمد "إذا دخل الرجل بيته استحب له أن يتنحنح أو يحرك نعليه".

خامسا: التماس الأعذار، قال تعالى "وإذ قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم" "النور 28" أي إذا ردوك من الباب قبل الإذن أو بعده "فارجعوا هو أزكى لكم" أي رجوعكم أزكى لكم وأطهر. قال قتادة فإن شاؤو أذنوا وإن شاؤوا ردوا، ولا يقفنّ على باب قوم ردوك عن بابهم، فإن للناس حاجات ولهم أشغال والله أولى بقبول العذر.

سادسا: تخفيف الزيارة، وهذا أدب مهم، لقد عاتب الله بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين أطالوا الجلوس في بيت الرسول عليه الصلاة والسلام فقال تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبيّ فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن.." "الأحزاب 53". قال ابن عباس: نزلت في ناس من المؤمنين كانوا يتحيّنون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون قبل أن يدرك الطعام، فيقعدون إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون. وتعرض المفسرون لأسباب أخرى أيضا ومنها حين زاوجه بزينب بنت جحش امرأة زيد.

سابعا: استئذان الأطفال، وذلك بتدريبهم على أدب الاستئذان وهو من الأمور الهامة التي لا يجوز إهمالها، فقد تقع عين الطفل على عورة فتظل معلقة في ذهنه طيلة حياته وقد تؤثر على سلوكياته في مستقبل حياته؛ قال تعالى "يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله الآيات والله عليم حكيم" "النور 58". أدب الله عباده في هذه الآية بأن يكون العبيد إذ لا بال لهم، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم إلا أنهم عقلوا معاني الكُشفة ونحوها يستأذنون على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة وهي الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها.

ثامنا: تباعد مسافة الزيارة: وهي وصية الرسول عليه الصلاة والسلام "زر غبا تزدد حبا".

تاسعا: مراعاة الأدب الإسلامي في الزيارات العائلية، يجب مراعاة الاحتشام والتستر، وحفظ حدود الله حتى لا تنتهك الحدود الأخلاقية.

هذا إسلامنا، مكارم أخلاق وتشريع إنساني رفيع ضمن حقوق الطفل، والشاب والمرأة والرجل والحيوان والنبات وكل الكائنات

» لا تدخلوا حتى يؤذن لكم