الحج دعوة ربانية

الدعوة إلى الحج
إن فريضة الحج جعلها الله ميزاناً عجباً لهذا الدين، فإن الناس يستبقون ويتسارعون ويبذلون الأموال ويضحون بكل نفيس وغال، ويريدون تحقيق هذا السفر، وهو غاية المنية والآمال، لا لدنيا يبغونها، ولا لعقود عمل يحصلون عليها ويأخذونها، وإنما لسر عجيب وأمر غريب لم يُكشفه الله عز وجل إلا لمؤمن مصدق وحبيب، وأخفاه الله عن كل كافر ومشرك ومعيب، ولذلك فإن الكافرين والجاحدين والمشركين ينظرون إلى المسلمين فى هذه الأيام متعجبين لأنهم لا يعملون عملاً لله، فلا يعملون عملاً إلا لدنيا مؤثرة، أو لشهوة حاضرة، فما بال هؤلاء الأقوام يبذلون كل ما يستطيعون ويريدون تحقيق هذه البغية بأى كيفية وعلى أى حال كان، من عجز عن تدبير الأموال يحتال على حرفة يذهب بها ليؤدى الفريضة، فيذهب سائقاً، أو يذهب حلاقاً، أو يذهب جزاراً .... كل ذلك ليؤدى فريضة الله، لا يشكو البعد من الأهل والأولاد، بل إن الأهل والأولاد يزفونه كأنهم يزفونه فى ليلة عرسه، لا يبكون ولا يضجرون، بل إنهم كلهم فرحون مستبشرون لأنه ذاهب للقاء الله فى بيته المعظم جل فى علاه.
ما هذا السر؟ أمر الله عز وجل الخليل إبراهيم أن يبنى البيت، وألا يستعين فى بناء البيت بأحد إلا بإبنه إسماعيل، فأخذ يبنى البيت بمفرده ولم يعاونه إلا إسماعيل، وبعد أن فرغ من بناء البيت أمره رب البيت أن يؤذن فى الناس بالحج إلى هذا البيت: { وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً } [27الحج] قال: يارب وما يُبلغ صوتى، قال: يا إبراهيم عليك الأذان وعلينا البلاغ، فوقف الخليل إبراهيم على جبل أبى قبيس المواجه للصفا، واتجه مرة إلى المشرق ومرة إلى المغرب ومرة إلى الشمال ومرة إلى الجنوب وفى كل مرة يقول: أيها الناس إن الله قد بنى لكم بيتاً وأمركم بالحج فحجوا، كنا فى عالم الظلمات، لم نكن حتى فى عالم الأرحام، أخرج الله الأرواح من مستقرها، وأجابت نداء الخليل بإذن ربها، فقالوا: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك – وكلمة لبيك أى إجابة لك وسمعاً وطاعة لك يارب العالمين – يقول فى ذلك أمير الأنبياء والمرسلين صلوات ربى وتسليماته عليه: {فمن لبى مرة حج مرة ومن لبى مرتين حج مرتين ومن زاد على ذلك فبحساب ذلك} وطويت الأقلام وطويت الصحف، ووضعت فى اللوح المحفوظ، المحفوظ من التغيير والتبديل بحفظ أكرم الأكرمين رب العالمين عز وجل.
فإذا كان فى كل عام يجدد الله عز وجل الدعوة لمن اختارهم للحج فى هذا العام، فإذا كانوا من المقربين والسابقين السابقين فإن الدعوة الخاصة لهم تكون من رب العالمين عز وجل، يأتيه الله عز وجل – تنزه عن التمثيل والحدود فى المنام – ويقول له: إنا اخترناك للحج فى هذا العام، فيقوم فرحاً مستبشراً، وإذا اختاره مولاه هيأ له الأسباب التى تُبلغه إلى بيت الله، إن لم يكن معه مال فإن الله يرزقه فى الوقت والحال بمال حلال لا يدرى من أين جاءه ولا كيف جاءه ليؤدى الفريضة التى اختاره الله عز وجل من أجلها.
وإذا كان من الصالحين فإن الذى يدعوه هو سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم ، يأتيه مناماً يدعوه لزيارة الله فى بيت الله، جاء صلوات ربى وتسليماته عليه إلى هارون الرشيد - الحاكم الذى لم تكن تغيب الشمس عن مملكته، والذى كان إذا كان جالساً ومرت سحابة فوقه يقول لها: امطرى حيث شئت فسيأتينى خراجك – فجاءه النبى صلى الله عليه وسلم فى المنام وقال له: يا هارون إنك ستحج بيت الله الحرام فى هذا العام فوسِّع على أهل الحرمين، فنذر لله عندما قام من منامه أن يحج ماشياً، فحج من بغداد إلى الأماكن المقدسة ماشياً على قدميه، مع أنه كان فى هذه المملكة المتسعة الأطراف، لأنه فرح لأن الذى دعاه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [24الأنفال] فالذى يدعوا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأكثر من ذلك الإمام الحسين رضى الله عنه – وكان يسكن فى المدينة المنورة – فكانت تأتيه الدعوة من الحبيب المختار، فحج خمسة وعشرين حجة ماشياً على قدميه من المدينة إلى مكة، وماشياً على قدميه فى أماكن المشاعر، فيذهب من مكة إلى منى ماشياً، ومن منى إلى عرفات ماشياً، ومن عرفات عند رجوعه إلى منى ومكة ماشياً، والنجائب والركائب تمشى بين يديه، لأنه نذر أن يحج لله ماشياً، لأن الذى دعاه هو منادى الناس بالإيمان، ويردد قول حضرة الرحمن: { رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا } [193آل عمران].
بل حتى النساء فى هذا المجال لهم نصيب، فهناك امرأة من الجزائر فى العصور الزاهرة، جاءها النبى صلى الله عليه وسلمودعاها لزيارته وزيارة البيت الحرام، فنذرت لله عز وجل أن تحج ماشية على عينيها، وبعد أن نذرت احتارت فى الوفاء بالنذر، كيف تمشى على عينيها؟! فذهبت إلى العلماء الأجلاء فأفتوها بأنها لا تمشى خطوة إلا وتصلى فيها ركعتين لله عز وجل، فمشت من الجزائر إلى بيت الله الحرام فى ثلاثة أعوام لأنها لا تمشى خطوة إلا وصلت فيها ركعتين لله لأنها نذرت أن تمشى على عينيها وهى تقول:
على الأحداق نسعى فى غرام **** فنشهده لنا رباً ولياً

ومن المؤمنين أهل اليمين من تكون دعوته بأن يأخذ الله روحه فى المنام فيطوف بها حول البيت، أو يسعى بها بين الصفا والمروة، أو يقف بها فى عرفات، فيرى فى منامه أنه ذهب إلى الأماكن المباركة وطاف بالبيت، أو سعى بين الصفا والمروة، أو وقف بعرفات، أو زار رسول الله صلى الله عليه وسلم فى روضته، فتؤجج هذه الدعوة القلبية من قلبه الشوق والحنين، ويقوم من نومه عازماً على تنفيذ رؤياه، ويقويه الله ويعينه ويمده بالأسباب حتى تكون الرؤيا رؤيا صادقة، ويحققها الله عز وجل له، ويذهب إلى زيارة الله وزيارة بيت الله فى هذه الأماكن المباركة.
وعامة المؤمنين تكون الدعوة لهم عن طريق مَلَك الإلهام، فإن لكل مؤمن كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: {لكل مؤمن ملك على قلبه يسدده} هذا المَلك هو الذى يُلهم الإنسان فى قلبه بفعل الخيرات، ويحثه على عمل الصالحات، فيكون جالساً وإذا به يشعر أنه يريد أن يفعل كذا، ويريد أن يقوم بكذا، مَن الذى ألهمه بذلك؟ إن كان من المقربين فالإلهام من الله، وإن كان من أهل اليمين فالإلهام من المَلك الذى جعله الله على قلبه يسدده ويلهمه ويؤيده، فيُلهمه بالحج إلى بيت الله الحرام، فينشرح صدره ويقوى شوقه ويحس بالحنين إلى زيارة هذه الأماكن المباركة، ويعينه الله عز وجل ويقويه على بلوغ هذه الأمنية وعلى تحقيق هذا الأمل لأن الله عز وجل كما قال بعض الصالحين وقد طاف حول البيت الحرام: (يارب هل تتقبل منى حجتى؟ فسمع نداءاً يقول له: وهل يدعوا إلى بيته إلا من أحبه؟!!) فعلم أن من دعاهم الله لزيارته هم الذين وفقهم الله لمغفرته ورحمته، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: {من وقف على عرفات وظن أن الله لم يغفر له فقد أعظم على الله الفرية}.
أما الذين لم يقيد لهم الله هذا الأمر العظيم، فتراهم معهم الأموال يذهبون بها إلى البلاد الأوربية والأمريكية، ولا تتحرك قلوبهم لزيارة الأماكن المقدسة، وإذا حدَّثهم صديق أو رفيق ربما يُسيئون إليه فى الخطاب، أو ربما يستهزءون به، لأن الله عز وجل لا يدعوا إلى بيته إلا من أحبه، بل كثير منهم سولت لهم نفوسهم أن يذهبوا إلى الحج – وهم مسلمون بشهادة الميلاد، ومعهم الاستطاعة، ولكن الله حرمهم من هذه البضاعة – حكت لنا الصحف عن كثير منهم سافر إلى جدة محرماً وعندما وصل إلى جدة ووجد الجموع ووجد الحشد الشديد وعلم أن الأمر يحتاج إلى صبر عجز عن ذلك ورجع فى أقرب طائرة!! وحرمه الله عز وجل من زيارته، لأن الله عز وجل لا يدعوا إلى بيته إلا من يريد أن يغفر له ويستجيب دعاءه ويحقق آماله ويغفر له حتى يرجع من الحج كيوم ولدته أمه خالياً من الذنوب، مع الحسنات التى لا عدَّ لها ولا حصر لها من فضل علام الغيوب عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: {إن الله يستجيب لأهل عرفات ويغفر لهم الذنوب والزلات ويضمن عنهم التبعات} وقال صلى الله عليه وسلم: {الحجاج والعمار وفد الله عز وجل إن سألوه أعطاهم وإن دعوه استجاب لهم وإن استغفروه غفر لهم وإن شفعوا شُفعوا}
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

» نيابة الحج والعمرة = توكيل الحج والعمرة
» الحج والزوجان
» حكم من نوى الحج كل عام ولم يستطع