ميلوسوفيتش.. سقوط طاغية

ميلوسوفيتش.. سقوط طاغية



ولد الطاغية سلوبودان ميلوسوفيتش في عام 1941 في بلدة بوزاريفاتش القريبة من بلجراد، انتحر عمه الذي اعتاد أن يزورهم في بيته أمام عينيه؛ بعد أن أطلق النار على رأسه وانفجر رأسه وتفجر مخه أشلاء أمامه، أما أبوه فقد ترك الأسرة في أعقاب الحرب العالمية الثانية وانتحر في عام 1962 في الجبل الأسود، وكذلك فعلت أمه الشيوعية بعد عشر سنوات من رحيل زوجها الذي انفصل عنها … في هذه البيئة المتفككة نشأ ميلوسوفيتش وهو يرى أمام عينيه نشأة الجمهورية الشيوعية أو ما عرف بالاتحاد اليوغسلافي على يد قائد المقاومة الصربية آنذاك جوزيف بروز تيتو الذي استمر في الحكم حتى عام 1980.

تعرف ميلوسوفيتش على رفيقة دربه المرأة الطموحة ( ماريانا ماركوفيتش ) وتزوجها قبل 35 عاما بعد قصة حب بدأت من أيام الدراسة الثانوية وهي التي قال عنها تقرير للسي إن إن: "إنها تمثل الطموح اللامحدود" ويقول دوشان ميتفيتش المدير السابق للإذاعة الوتلفزة اليوغسلافية ( في العقد الأخير بدا نجمه ( ميلوسوفيتش في الهبوط بينما ارتفعت أسهمها في صناعة القرار .. كل شيء سواء كان شخصيًّا أم سياسيا كانت تقول: أنا المسؤولة … )

وكانت تعتقد أنها وريثة بروز تيتو، وأن مجد يوغسلافيا أمانة في عنقها، وكانت تعانى من أزمة قتل أمها مما أثر على أعصابها وتصرفاتها

فقد كانت دائما ما تقول له: " يوما ما ستصبح صورك على الجدران مثل صور الزعيم تيتو "

ماريانا ماركوفيتش زوجة ميلوسوفيتش هي الأخرى تخرجت في بيت لم يعرف سوى التشرذم والتفكك، فقد قتلت أمها بعد الحرب العالمية الثانية؛ لأن المقاومة اتهمتها بأنها سربت معلومات للنازية .. ولكن الذي قتلها بيده هو أبوها أي جد ماريانا الذي أراد أن يزيل العار بيده! وراحت أمها ضحية خيانتها، وبقيت ماريانا دون أن يعترف بها أبوها الذي كان شيوعيا كذلك وكان من أفراد المقاومة ضد النازية، حتى تزوج مرة ثانية واعترف بابنته وهى في السادسة عشرة من عمرها.

كانت ماريانا أشد من ميلوسوفيتش إيمانا بفكرة الشيوعية، وكانت تراه براجماتيا وليس شيوعيا وبحكم تخصصها في العلوم الاجتماعية في جامعة بلجراد بدت ماريانا أكثر تشددًا من ميلوسوفيتش، ولكنها كانت ترى فيه الزعيم المنقذ وهى التي وجهته صوب كوسوفا؛ لأنها كانت تعتقد أن الطريق إلى المجد يبدأ من كوسوفا؛ لذا نصحته بترك الشيوعية والتخلي عنها، رغم أنها عادت لتشكل حزبا يساريا ذا توجه شيوعي في عام 1993 .

صدقها المسكين وتوجه صوب كوسوفا في عام 1987 وخطب خطبته المشهورة في الأقلية الصربية بالإقليم، وأعلن مقولته الشهيرة: " لن يضربكم أحد بعد اليوم "

عاد من كوسوفا ليقود مسيرة حاشدة أطلق عليها مسيرة " معركة كوسوفا"

ترى هل تشابهت الأحداث وتنساخت الصور، فكل زعيم ديكتاتور يأتي إلى العالم الثالث يخرج من رحم لا يعرف الاستقرار، ويتربى في بيت ليس له قرار، وتلتقطه أيادٍ خبيثة تجيد اللعب بنفوس الضعفاء، ويمر عبر بوابة الجيوش والحروب، فكلهم بلا استثناء يحبون الوطن، وكلهم بلا استثناء فرطوا في ترابه، وكلهم من ورائهم سيدة أولى مثل ماريانا …‍‍

ميلوسوفيتش ماذا فعل بيوغسلافيا؟

رغم أنها دولة شيوعية منذ تأسيسها في 1945 فإنها حظيت بمكانة دولية لتزعمها حركة عدم الانحياز وللنهضة الاقتصادية الكبيرة التي عاشتها الدول المشاركة في الاتحاد اليوغسلافي، ورغم أنه كان بإمكان بروز تيتو أن ينضم إلى حلف الناتو فإنه آثر أن يكون محايدًا.

لكن ميلوسوفيتش وفي أقل من عشر سنوات استطاع وبمهارة يحسد عليها أن يفكك العملاق اليوغسلافي ليحيله إلى ركام



ففي عام 1991 انفصلت كل من سلوفيينا وكرواتيا ومقدونيا، لكنه حارب في كرواتيا وخرج مهزومًا في سلافونيا الشرقية، وفى عام 1992 أعلن الشعب البوسنوى استقلاله عبر استفتاء شعبي، لكنه دخل الحرب في البوسنة، واضطر إلى توقيع اتفاقية دايتون، ليتخلى عن جزء كبير من الحلم الصربي ( صربيا الكبرى ) الذي روج له عبر دوائره المتنفذة في الإعلام والثقافة.

وفى 1998 أعمل آلته العسكرية مرة أخرى في كوسوفا، وتلقى ضربات الناتو لمدة 78 يوما متتالية، واضطر للاستسلام والتخلي عن كوسوفا التي كانت طريقه إلى سلم الحكم والرئاسة في صربيا.

كيف يصنع الديكتاتور؟

بخلاف زوجته التي دفعته إلى حافة الهاوية هنالك أدوات أخرى

1-فكرة … ونقصد بها أن كل طاغية يأتي إلى السلطة لا بد وأن يبيع لشعبه فكرة جديدة تكون منطلقًا لنجوميته، فبعد انهيار الكتلة الشرقية بات من المؤكد انهيار الاتحاد اليوغسلافي كما حدث مع الاتحاد السوفيتي ودول أوربا الشرقية، لكن ميلوسفيتش استطاع أن يقدم فكرة صربيا الكبرى إلى شعبه.

2-تنظيم وحفنة من المنتفعين يأتي على رأس هذه الحفنة

-نيكولاي ساينوفيتش نائب رئيس الوزراء

-ميلان ميلاتينوفيتش رئيس صربي والذي كان وزيرًا لخارجية يوغسلافيا، والذي عرف بأنه دمية في يد ميلوسوفيتش، وكلاهما قاما بتحريضه ودعمه في الحروب التي خاضها، وكانا وراء مذابح المسلمين في البوسنة وكوسوفا.

-فيوسلاف سيسلي وهو متعصب صربي ترأس الحزب الراديكالي المتطرف والموغل في التعصب والقومية، ورغم أنه ليس من عصابة ميلوسوفيتش المقربين فإن تعصبه دفع به للتحالف معه وشجعه على الدخول إلى كوسوفا، وقد كافأه ميلوسوفيتش ومنحه منصب نائب رئيس الوزراء.

أما التنظيم الذي احتوى هذه الحفنة، فهو الحزب الاشتراكي الذي ورث مبادئ حزب الرابطة الشيوعية في عام 1990 .

3-حفنة من رجال الأعمال ولصوص المال العام وعلى رأسهم بوجوليوب كاريتش وإخوانه وقد برزوا إلى ساحة الاقتصاد الصربي مع صعود نجم ميلوسفيتش في ساحة السياسة، واستطاع أن يقنع ميلوسوفيتش بأنه رجل الساعة، واستطاع أن ينفذ إلى الوزراء والمسؤولين عبر علاقاته مع ميلوسوفيتش وابنه ( ماركو ) وقام بتعيين بعضهم في مجالس إدارات شركاته، واستفاد كثيرًا من الحصار كما أفاد ميلوسوفيتش وعصابته كذلك بعد أن اقتنع ميلوسفيتش بأنه يمكنه توفير سيولة نقدية للدولة من خلال عملياته المشبوهة، يستعد الآن إلى الرحيل إلى موسكو بعد أن تنحى ميلوسوفيتش، ومعه رحل ماركو ميلوسوفيتش.

4-رؤوس الجيش والسلطة

ونقصد اثنين من كبار القادة في الجيش والشرطة وهما وزير الدفاع دراجليوب أودانيتش وفلايكو ستويليكوفيتش وزير الداخلية.

5-إذاعة وتليفزيون ..

فقد وقع هذا الجهاز الرهيب رهينة في يد ميلوسوفيتش وحده، لدرجة أن أحدا من رموز المعارضة لم يعرف طريقه إلى هذا المبنى طيلة وجود ميلوسوفيتش في السلطة.

الطريق إلى السقوط

6 يوليو 2000

قام الديكتاتور بتغيير دستوري بموجبه يتم انتخابه مباشرة من المواطنين بدلا من انتخابه عبر مجلس الشعب، وأعلن عن انتخابات مبكرة قبل عام على انقضاء فترته في الكرسي، والتي كان من المفترض أن تنتهي في يوليو 2001

27 يوليو 2000

أعلن الديكتاتور عن انتخابات مبكرة فاجأ بها المعارضة

1سبتمبر 2000

شعرت أحزاب المعارضة بعمق المأزق، وأدركت أن تفتتها ليس لصالح الوطن، وعلى الفور أعلن عن تشكيل تحالف ديمقراطي للمعارضة يضم ثمانية عشر حزبا، واختاروا فيوتسلاف كوستينتيشا مرشحًا لهم للرئاسة

20 سبتمبر 2000

استطلاعات الرأي التي أنفقت عليها أوربا وأمريكا مبالغ طائلة تؤكد تفوق المرشح المعارض رغم حرمانه من استخدام الإعلام الرسمي

24 سبتمبر 2000

يوم الانتخابات، ميلوسوفيتش يمنع المراقبين الأجانب من حضور الانتخابات، ويحرم المراسلين الأجانب كذلك من متابعة أخبارها إلا عبر وسائل الإعلام.

يوم الانتخابات، ميلوسوفيتش يمنع المراقبين الأجانب من حضور الانتخابات، ويحرم المراسلين الأجانب كذلك من متابعة أخبارها إلا عبر وسائل الإعلام الرسمية.

مقاطعة من الجبل الأسود وألبان كوسوفا للانتخابات

25 سبتمبر ‏2000‏

المعارضة تدعي فوز مرشحها بنسبة 55 %

26 سبتمبر ‏2000‏

اللجنة المركزية الاتحادية للانتخابات تعلن عن جولة جديدة لإعادة الانتخابات بين ميلوسوفيتش الذي زعمت أنه حصل على 40 % وكوستينتشا الذي حصل على 48 %

27 سبتمبر ‏2000‏

المظاهرات تندلع في شوارع بلجراد تطالب الديكتاتور بالتنحي عن السلطة

2 أكتوبر 2000

إضراب عام تدعو إليه المعارضة ويستجيب الشعب الصربي، وإغلاق المدارس والجامعات والمستشفيات ودخول عمال المناجم على خط الإضراب رغم أن قيادتهم معروفة بأنها من أشد أنصار ميلوسوفيتش والبوليس الصربي يحاول التدخل ثم يتراجع

4 أكتوبر 2000

كوستينتشا يزور المناجم ويُحتفى به أمام أعين رجال الشرطة

تزايد الضغوط الدولية على ميلوسوفيتش بالتنحي، لكنه يلجأ إلى المحكمة الدستورية لتسعفه بقرار جديد، وهو إلغاء الانتخابات وتأجيل إجراء أي انتخابات حتى ما بعد انتهاء فترة حكمه في العام المقبل، أعقبه مظاهرات وغضب شعبي في أنحاء صربيا والمعارضة تنذر ميلوسفيتش وتمنحه فرصة حتى الساعة الثالثة عصرا بتوقيت صربيا؛ لكي يتخلى عن السلطة

5 أكتوبر 2000

انتفاضة الصرب، واستخدام الحجارة في قصف البرلمان

واليكم تفاصيل اليوم الأخير

فجر يوم الخميس 5 أكتوبر تدافعت الجماهير من كافة أرجاء صربيا إلى وسط العاصمة بلجراد، كانت الطوابير ممتدة والهتاف موحدا فليرحل ميلوسفيتش، إنه ليس وقتك ياميلوسوفيتش، ورغم الحواجز التي وضعتها الشرطة فإن طوابير القادمين إلى العاصمة استمرت في زحفها

الساعة 12 ظهرا

التف قرابة 250 ألف متظاهر حول مبنى البرلمان، وأطلقت الشرطة القنابل المسيلة للدموع، واستمر المتظاهرون في محاولة اقتحام البرلمان

الساعة الثالثة ظهرا

انتهت المهلة وانفجرت الجماهير الغاضبة، وميلوسفيتش ما زال يتهم الغرب بالمؤامرة والمعارضة بالخيانة

الساعة الرابعة

البرلمان في يد المتظاهرين، والبوليس وللمفاجأة يشارك أفراح المتظاهرين، تتشابك الأيادي في مشهد تلاحمي فريد، هل يقتل الشرطي أخاه أو ابنه …. مستحيل ( عبارة ذكرها أحد قناصة الشرطة في برلين الشرقية في أعقاب مظاهرات المعارضة لإسقاط نظام هونيكر في ألمانيا الشرقية عام 1989)

مفاجأة أخرى، لقد وجد المتظاهرون بطاقات انتخابية مسودة لصالح ميلوسوفيتش داخل مبنى البرلمان …

الساعة الخامسة

المظاهرات تنطلق إلى مبنى التليفزيون، المبنى يتحرق، يتوقف الإرسال، ليعود من جديد .. هنا تليفزيون صربيا الجديد

يستضيف التليفزيون الرئيس المنتخب، ويتوارى ميلوسوفتش عن الأنظار

الساعة السادسة والنصف

أمام نصف مليون محتشد أمام بلدية بلجراد، كوستنيتشا يخطب في الجماهير ليعلن تحرر صربيا من قيد ميلوسوفيتش، وفخره بانتخاب الشعب له رئيسًا للبلاد.

الساعة السابعة والنصف

انتهت المهمة.. والشعب يرقص ويغني في شوارع بلجراد .. لقد انتهى الكابوس، ولكن الديكتاتور يرفض أن يتنحى حتى جاءه وزير خارجية روسيا ليقول له وبكل صراحة: " ميلوسوفيتش، لقد انتهى كل شيء، الشرطة والجيش ونحن مع المعارضة، عليك أن ترحل ". الديكتاور لا يريد أن يرحل بهدوء، لكنه يعلن في خطاب متلفز .. لقد علمت للتو فوز كوستينتشا بالانتخابات، وأنا أهنئه بالفوز .. الآن ياميلو …
رسالة من شعب كان عزيزا يوما ما، فجاءه من ذله، لكن تبقى الشعوب دائما مستيقظة، تُغمض عينيها لكنها لا تنام، تأخذها غفوة، لكن قلبها ينبض بالحياة